مجتمع

الفردانية ومآلاتها: عن الفردانية والأجيال الجديدة

هل نعيش حرية حقيقية أم عزلة مقنّعة؟ .. تأمل في مظاهر الفردانية التي تغزو حياتنا، من شاشة الهاتف إلى وجبة الطعام، ومن الوحدة النفسية إلى تفكك العلاقات.

future صورة تعبيرية (الفردانية والعزلة)

لا أجد غضاضة في أن أعترف بوجود نزعة فردانية (اجتماعية) في نفسي، إلا أنني دائم التساؤل عن مصدرها وأسبابها، كما أني دائمًا ما أحاول التنبه إلى آثارها. من خلال محاولة الفهم هذه، تجمعت لدي معلومات كثيرة نتيجة الكتب والمقالات الموجودة بوفرة في الفترة الأخيرة عن الفردانية، إلا أن وجود الدراسات لم يمنعني من التأمل في ذاتي وحياتي، بحثًا عن أسباب هذه النزعة الملوثة. وأظنني قد وضعت يدي على بعض الظواهر التي أرى أنها سبب مساهِم في تفشي ظاهرة الفردانية.

من الشائع أن تُربط الفردانية بالنموذج الغربي، ويُقال إن العقل (المغلوب) العربي المعاصر ما هو إلا مقلِّد للغربي (الغالب)، كما أشار ابن خلدون. غير أن مثل هذا الطرح يغفل عن حقيقة أن الفردانية ليست مجرد تقليد، بل هي في كثير من الأحيان نتيجة لتحولات مادية وثقافية عميقة فرضها العصر نفسه، وتجاوزت حدود الجغرافيا والهوية.

لقد بدأ تشكل الفرد الحديث منذ لحظة انكسار المرجعيات الكلية الكبرى، سواء كانت دينية أو تقليدية أو اجتماعية، وتحوّل الإنسان إلى كائن مستقل يسعى لتحقيق ذاته بعيدًا عن سلطة الجماعة. صحيح أن جذور الفردانية نبتت في الغرب، وتبلورت خلال عصر التنوير، حين قام مفكروه بتحرير الفرد من قبضة الدين والكنيسة والسلطة، وأعلوا من شأن العقل، وحق الإنسان في التفكير والتعبير والامتلاك والسعي للنجاح. لكن هذا التشكُّل لم يكن فجائيًا ولا خطًّا مستقيمًا، بل نتاج صيرورة تاريخية معقدة ساهمت فيها عوامل متعددة: النهضة، الرأسمالية، الثورة الصناعية، الليبرالية، بروز الطبقة الوسطى، توسع الملكية الخاصة، وتحولات السوق.

ما نعيشه اليوم ليس مجرد استنساخ لهذا النموذج، بل هو في كثير من الأحيان تجسيد لتحولات عالمية فرضتها العولمة الرقمية والثقافية، التي جعلت كل شيء متاحًا، ولكن بشكل فردي ومنفصل.

ورغم أن الفردانية ظاهرة تلقي بظلالها على الإنسان المعاصر عامة، إلا أنها تخص أحيانًا الأجيال الجديدة (جيل زد وما بعده). ولذلك حاولت رصد بعض المظاهر، وما طرأ عليها من تغيرات، وأثرها في نمو روح الفردانية في الأجيال الجديدة.

في الماضي، كانت الطفولة متمثّلة في ألعاب جماعية، مثل كرة القدم مع الجيران في الشارع، أو ألعاب أخرى ككيلو بامية وصيادين السمك وغيرها. أمّا الآن، فجميع الألعاب التي يمارسها الأطفال فردية على شاشة الهاتف المحمول، إذ لم يعد لوجود الآخر حاجة.

وكان الطعام لحظة اجتماعية بامتياز، حيث تجتمع الأسرة حول مائدة واحدة، وتُوزع الأدوار بين من يُحضِّر الطعام ومن يساعد. حتى الجوع كان يُفضي إلى لحظة حنان بين الطفل وأمه. أما اليوم، فقد صار مجرد اختيار من قائمة رقمية؛ تفتح تطبيقًا، تختار الوجبة، وتتناولها بمفردك أمام شاشة أخرى. الوجبة فقدت معناها الجماعي، وتحولت إلى وظيفة فردية.

كان أفراد الأسرة يجتمعون كل مساء لمتابعة المسلسل في ساعة محددة، ويعلو صوت التلفاز ليملأ البيت. أما اليوم، فلكل فرد هاتفه أو شاشته، ولكل منهم جدول مشاهدته الخاص. لم يعد هناك توقيت جماعي، بل توقيت شخصي. أصبح بإمكانك أن تشاهد ما تريد في الوقت الذي تريد.

في الماضي، كان المذياع جزءًا من الروتين الأسري، يبث حفلات أم كلثوم أو القرآن الكريم في الخلفية، يشارك الجميع في سماعه. أما الآن، فلكل فرد سماعته، وموسيقاه الخاصة، واختياره الخاص.

بالإضافة إلى أن من كان يركب المواصلات العامة في السابق كان يتبادل الحديث العفوي مع من حوله، أو على الأقل يسمعهم. لكن مع ظهور شركات النقل الخاصة كأوبر وكريم، بات كل راكب في عزلته الخاصة، يرفض الحديث، ويتجنب السائق، كما لو كان التفاعل البشري رفاهية غير مرغوبة. السيارة أصبحت غرفة مغلقة من الصمت.

أعتقد أن هذه الممارسات، بهذا الشكل، وبسبب التحولات التي طرأت عليها، هي سبب قوي في نمو روح الفردانية في الإنسان المعاصر، والأجيال الشابة الجديدة بشكل خاص.

الفردانية، إذًا، من هذا المنظور، هي تغير في نمط تفكير ناتج عن تغير في النمط المعيشي (الحياة الحديثة). ولذلك أجد أن الممارسات الاجتماعية (المناسبات الاجتماعية، صلة الرحم، ...) مهمة جدًا كمحاولة لموازنة الظاهرة.

رغم أننا نلاحظ، بشكل واضح، شكوى الكثير من الأجيال الجديدة من المناسبات الاجتماعية والتجمعات العائلية، بسبب نمو وتعزيز روح الفردانية الناتجة عن التغيرات الحاصلة في نمط المعيشة، كما وضحنا، أصبح وجود الآخرين يمثل عبئًا ثقيلًا على الأجيال الجديدة!

لقد تغيّر الوعي. فبدلًا من أن يكون الآخر جزءًا أساسيًا في تحقيق الذات، بات يُنظر إليه بوصفه كائنًا غير ضروري، وربما مزعجًا أحيانًا. وهكذا أصبح الإنسان مركزًا منفصلًا، يدور حول ذاته فقط، ويمارس حياته بشكل انفرادي شبه كامل.

الفردانية ومآلاتها

أثمرت الفردانية المعاصرة عن تحولات عميقة في البنية النفسية والاجتماعية والوجدانية للإنسان الحديث، ولم تكن هذه التحولات خالية من الأثمان الباهظة، بل حملت معها نتائج مركبة، بعضها ظاهر وآخر مستتر، امتد أثره إلى أنماط التفكير، وطبيعة العلاقات، وجودة الحياة ذاتها.

(أ) الروابط الاجتماعية وتفكك الأسرة

أدت الفردانية إلى تآكل البنية التقليدية للأسرة والمجتمع، حيث لم يعد الانتماء إلى جماعة – سواء كانت أسرة، أو مجتمعًا محليًا، أو مؤسسة – ضرورة وجودية، وأصبح الفرد قادرًا على التخلي عن الآخرين، ومواصلة يومه دون احتياج إلى الآخر الإنسان، وأصبح اعتماده الغالب على الآلة. وهكذا تفككت الروابط الأسرية تدريجيًا، وتراجعت قيم التضامن، والرحم، واللقاء العائلي، لتحل محلها علاقات سطحية تقوم على المصلحة المؤقتة.

(ب) الوحدة والقلق والاكتئاب

رغم أن الفردانية تُروَّج بوصفها طريقًا إلى الحرية والسعادة وتحقيق الذات، فإن نتائجها النفسية جاءت معاكسة لذلك في كثير من الأحيان. فالعزلة، حين تصبح نمطًا دائمًا، تؤدي إلى شعور متفاقم بالوحدة، وتقطع الإنسان عن مصادر الدعم النفسي والاجتماعي.
وهل من دليل أبلغ على آثار الفردانية من شكوى الإنسان المستمرة من الوحدة والفراغ هذه الأيام؟

(ج) تضخم الأنا وانكماش الشعور بالمسؤولية الاجتماعية

أنتجت الفردانية نموذجًا لإنسان يدور حول ذاته، يطلب النجاح لنفسه، ويقيس قيمته بقدر ما يحققه من إنجازات فردية، بغض النظر عن أثرها على الآخرين. وبهذا، تراجعت مفاهيم مثل: الواجب، والتضحية، والإيثار، والمصلحة العامة. صار الفرد يختار ويقرّر ويستهلك، دون اعتبار لما يتطلبه التعايش مع الآخر، أو لما تقتضيه الأخلاق الجمعية، أو ما تمليه المسؤولية الاجتماعية.

والأمر، حقيقة، في غاية الأسف، لأن نمط الحياة الحديث يجعلنا في دائرة لا تنتهي من المسؤوليات الفردية، وكثيرًا ما يساعد خطاب التنمية البشرية في ذلك. فحلم الثروة السريعة، وتحقيق النجاح تبعًا للمفهوم المادي الحديث، قد أحكم قبضته علينا. (ما يتطلب منا ضرورة إعادة النظر في المفاهيم التي نتبناها عن النجاح والسعادة).

الحرية/العزلة؟ سؤال الفرد في عصر ما بعد الحداثة

لا شك أن هذه التحولات وفّرت قدرًا كبيرًا من الحرية الشخصية، ومكّنت الأفراد من التحكم في اختياراتهم، وأزالت القيود الزمنية والاجتماعية. لكنها، في المقابل، كرّست حالة من العزلة والانفصال، وعمّقت الشعور بالوحدة، وساهمت في تفكك الروابط الاجتماعية، وارتفاع معدلات الاكتئاب، والتراجع العام في التفاعل الإنساني.

ما نحتاجه اليوم ليس فقط نقد الفردانية، بل إعادة التفكير في علاقتنا بأنفسنا والآخرين. هل يمكن إعادة التوازن بين الحرية الفردية والانتماء الجماعي؟ هل نستطيع أن نسترد قيمة المشاركة دون أن نضحّي بالاستقلال؟

# معرفة

السلام على أبي الشهداء: صورة الإمام الحسين في المذاهب الإسلامية
وائل حلاق في مواجهة تهمة الثقافوية
جغرافية الكآبة

مجتمع